فصل: فصل مَحَلُّ أَدَاء التَّكْبِيرِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل سُنَن السُّجُودِ

وَأَمَّا سُنَنُ السُّجُودِ فَمِنْهَا أَنْ يُكَبِّرَ عِنْدَ السُّجُودِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ من السُّجُودِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ عِنْدَ الِانْحِطَاطِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ لِلِانْتِقَالِ من الرُّكْنِ ولم يُوجَدْ ذلك عِنْدَ الِانْحِطَاطِ وَوُجِدَ عِنْدَ الرَّفْعِ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِمَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قال لِلتَّالِي إذَا قَرَأْت سَجْدَةً فَكَبِّرْ وَاسْجُدْ وإذا رَفَعْت رَأْسَك فَكَبِّرْ وَلَوْ تَرَكَ التَّحْرِيمَةَ يَجُوزُ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هذا رُكْنٌ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَلَا يَتَأَدَّى بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ كَالْقِيَامِ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لا ‏[‏ألا‏]‏ تَرَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ جَمِيعُ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ من سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَيُفْسِدُهَا الْكَلَامُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَحُرْمَةُ ما وَرَاءَهَا من الْأَفْعَالِ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِمُطْلَقِ السُّجُودِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا شيئا آخَرَ لَزِدْنَا على النَّصِّ وَلِأَنَّ السُّجُودَ وَجَبَ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَخُضُوعًا له وَتَرْكُ التَّحْرِيمَةِ ليس بِمُنَافٍ لِلتَّعْظِيمِ وَأَمَّا انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ وَالتَّكَلُّمُ بِمَا هو من كَلَامِ الناس فَيُنَافِي التَّعْظِيمَ وَالْخُشُوعَ وَحُرْمَةُ الْكَلَامِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ لَا يُعْتَدُّ بِالسُّجُودِ مع الْكَلَامِ لِانْعِدَامِ ما هو الْمَقْصُودُ وَلِأَنَّ السُّجُودَ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَالتَّحْرِيمَةُ تَجْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُخْتَلِفَةَ عِبَادَةً وَاحِدَةً وَهَهُنَا الْفِعْلُ وَاحِدٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحْرِيمَةِ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلُّ تَكْبِيرَةٍ بِمَنْزِلَةِ رَكْعَةٍ على ما يُعْرَفُ هُنَاكَ إن شاء الله تعالى‏.‏

وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ في هذه السَّجْدَةِ من التَّسْبِيحِ ما يقول في سَجْدَةِ الصَّلَاةِ فيقول سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَحَبُّوا أَنْ يقوله ‏[‏يقول‏]‏ فيها‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كان وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا‏}‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا‏}‏ الْآيَةَ وَاسْتَحَبُّوا أَيْضًا أَنْ يَقُومَ فَيَسْجُدَ لِأَنَّ الْخُرُورَ سُقُوطٌ من الْقِيَامِ وَالْقُرْآنُ وَرَدَ بِهِ وَإِنْ لم يَفْعَلْ لم يَضُرَّهُ وَمِنْهَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَمَعَهُ قَوْمٌ فَسَمِعُوهَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْجُدُوا معه لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْوَضْعِ وَلَا بِالرَّفْعِ لِأَنَّ التَّالِيَ أمام السَّامِعِينَ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لِلتَّالِي كُنْتَ إمَامَنَا لو سَجَدْتَ لَسَجَدْنَا مَعَكَ وَإِنْ فَعَلُوا أَجْزَأَهُمْ لِأَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ في الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو فَسَدَتْ سَجْدَتُهُ بِسَبَبٍ لَا يَتَعَدَّى إلَيْهِمْ وَلَا تَشَهُّدَ في هذه السَّجْدَةِ وَكَذَا لَا تَسْلِيمَ فيها لِأَنَّ التَّسْلِيمَ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمَةَ عِنْدَنَا فَلَا يُعْقَلُ التَّحْلِيلُ وَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُسَلِّمُ لِلْخُرُوجِ عن التَّحْرِيمَةِ وَيُكْرَه لِلرَّجُلِ تَرْكُ آيَةِ السَّجْدَةِ من سُورَةٍ يقرأها ‏[‏يقرؤها‏]‏ لِأَنَّهُ قَطْعٌ لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَتَغْيِيرٌ لِتَأْلِيفِهِ وَاتِّبَاعُ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ مَأْمُورٌ بِهِ قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فإذا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏}‏ أَيْ تَأْلِيفَهُ فَكَانَ التَّغْيِيرُ مَكْرُوهًا وَلِأَنَّهُ في صُورَةِ الْفِرَارِ عن وُجُوبِ الْعِبَادَةِ وَالْإِعْرَاضِ عن تَحْصِيلِهَا بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَكَذَا فيه صُورَةُ هَجْرِ آيَةِ السَّجْدَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ من الْقُرْآنِ مَهْجُورًا وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ من بَيْنِ السُّورَةِ لم يَضُرَّهُ ذلك لِأَنَّهَا من الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةُ ما هو من الْقُرْآنِ طَاعَةٌ كَقِرَاءَةِ سُورَةٍ من بَيْنِ السُّوَرِ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهَا آيَاتٍ لِتَكُونَ أَدَلَّ على مُرَادِ الْآيَةِ وَلِيَحْصُلَ بِحَقِّ الْقِرَاءَةِ لَا بِحَقِّ إيجَابِ السَّجْدَةِ إذْ الْقِرَاءَةُ لِلسُّجُودِ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَبَّةٍ فَيَقْرَأُ مَعَهَا آيَاتٍ لِيَكُونَ قَصْدُهُ إلَى التِّلَاوَةِ لَا إلَى إلْزَامِ السُّجُودِ وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَعِنْدَهُ نَاسٌ فَإِنْ كَانُوا مُتَوَضِّئِينَ مُتَهَيِّئِينَ لِلسَّجْدَةِ قَرَأَهَا فَإِنْ كَانُوا غير مُتَهَيِّئِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْفِضَ قِرَاءَتَهَا لِأَنَّهُ لو جَهَرَ بها لَصَارَ مُوجِبًا عليهم شيئا ربما ‏[‏بما‏]‏ يَتَكَاسَلُونَ عن أَدَائِهِ فَيَقَعُونَ في الْمَعْصِيَةِ وَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْلُوَ آيَةَ السَّجْدَةِ في صَلَاةٍ يُخَافَتُ فيها بِالْقِرَاءَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قال سَجَدَ بِنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ إمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْعَصْرُ حتى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَرَأَ ألم تنزيل السَّجْدَةِ وَلَوْ كان مَكْرُوهًا لَمَا فَعَلَهُ النبي صلى الله عليه وسلم وَلَنَا أن هذا لَا يَنْفَكُّ عن أَمْرٍ مَكْرُوهٍ لِأَنَّهُ إذَا تَلَا ولم يَسْجُدْ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ وَإِنْ سَجَدَ فَقَدْ لَبَّسَ على الْقَوْمِ لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ سَهَا عن الرُّكُوعِ وَاشْتَغَلَ بِالسَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ فَيُسَبِّحُونَ وَلَا يُتَابِعُونَهُ وَذَا مَكْرُوهٌ وما لَا يَنْفَكُّ عن مَكْرُوهٍ كان مَكْرُوهًا وَفِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم مَحْمُولٌ على بَيَانِ الْجَوَازِ فلم يَكُنْ مَكْرُوهًا وَإِنْ تَلَاهَا مع ذلك سَجَدَ بها لِتُقَرَّ وَالسَّبَبِ في حَقِّهِ وهو التِّلَاوَةُ وَسَجَدَ الْقَوْمُ معه لِوُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ عليهم أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَجَدَ الْقَوْمُ معه وَلَوْ تَلَاهَا الْإِمَامُ على الْمِنْبَرِ يوم الْجُمُعَةِ سَجَدَهَا وَسَجَدَ معه من سَمِعَهَا لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَلَا سَجْدَةً على الْمِنْبَرِ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ الناس معه وَفِيهِ دَلِيلٌ على أَنَّ السَّامِعَ يَتْبَعُ التَّالِيَ في السَّجْدَةِ والله أعلم‏.‏

فصل بَيَان مَوَاضِعِ السَّجْدَةِ في الْقُرْآن

ِوَأَمَّا بَيَانُ مَوَاضِعِ السَّجْدَةِ في الْقُرْآنِ فَنَقُولُ إنَّهَا في أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا من الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ في النِّصْفِ الْأَوَّلِ في آخِرِ الْأَعْرَافِ وفي الرَّعْدِ وفي النَّحْلِ وفي بَنِي إسْرَائِيلَ وَعَشْرٌ في النِّصْفِ الْآخَرِ في مَرْيَمَ وفي الْحَجِّ في الْأُولَى وفي الْفُرْقَانِ وفي النَّمْلِ وفي الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ وفي ص وفي حم السَّجْدَةِ وفي النَّجْمِ وفي‏:‏ ‏{‏إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ‏}‏ وفي‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ‏}‏ وقد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ منها أَحَدُهَا أَنَّ في سُورَةِ الْحَجِّ عِنْدَنَا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَجْدَتَانِ في قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا‏}‏ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قال سُئِلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ قال نعم أو قال فُضِّلَتْ الْحَجُّ بِسَجْدَتَيْنِ من لم يَسْجُدْهُمَا لم يَقْرَأْهَا وَهَكَذَا روى عن عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن أُبَيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ عَدَّ السَّجَدَاتِ التي سَمِعَهَا من رسول صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَدَّ في الْحَجِّ سَجْدَةً وَاحِدَةً وقال عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ في الْحَجِّ هِيَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ سَجْدَةُ الصَّلَاة وهو تَأْوِيلُ الحديث وَهَذَا لِأَنَّ السَّجْدَةَ مَتَى قُرِنَتْ بِالرُّكُوعِ كانت عِبَارَةً عن سَجْدَةِ الصَّلَاةِ كما في قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاسْجُدِي وَارْكَعِي‏}‏ وَالثَّانِي أَنَّ في سُورَةِ ص عِنْدَنَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَجْدَةُ الشُّكْرِ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ لو تَلَاهَا في الصَّلَاةِ سَجَدَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَسْجُدُهَا واحتح ‏[‏واحتج‏]‏ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ في ص وَسَجَدَهَا ثُمَّ قال سَجَدَهَا دَاوُد تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا وَرُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قال قَرَأَ رسول صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْمِنْبَرِ سُورَةَ ص فَنَزَلَ وَسَجَدَ الناس معه فلما كان في الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ قَرَأَهَا فَتَشَوَّفَ الناس لِلسُّجُودِ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ الناس معه وقال لم أُرِدْ أَنْ أَسْجُدَهَا فَإِنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ من الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا سَجَدْتُ لِأَنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَوَّفْتُمْ لِلسُّجُودِ وَلَنَا حَدِيثُ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَرَأَ في الصَّلَاةِ سُورَةَ ص وسجد وَسَجَدَ الناس معه وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ وَلَوْ لم تَكُنْ وَاجِبَةً لَمَا جَازَ إدْخَالُهَا في الصَّلَاةِ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا من الصَّحَابَةِ قال يا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رأيت كما يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أَكْتُبُ سُورَةَ ص فلما انْتَهَيْتُ إلَى مَوْضِعِ السَّجْدَةِ سَجَدَتْ الدَّوَاةُ وَالْقَلَمُ فقال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نَحْنُ أَحَقُّ بها من الدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ» فَأَمَرَ حتى تُلِيَتْ في مَجْلِسِهِ وَسَجَدَهَا مع أَصْحَابِهِ وما تَعَلَّقَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ دَلِيلُنَا فَإِنَّا نَقُولُ نَحْنُ نَسْجُدُ ذلك شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ على دَاوُد بِالْغُفْرَانِ وَالْوَعْدِ بِالزُّلْفَى وَحُسْنِ الْمَآبِ وَلِهَذَا لَا يُسْجَدُ عِنْدَنَا عَقِيبَ قَوْلِهِ وَأَنَابَ بَلْ عَقِيبَ قَوْلِهِ مَآبٍ وَهَذِهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ في حَقِّنَا فإنه يطعمنا ‏[‏يطمعنا‏]‏ في إقَالَةِ عَثَرَاتِنَا وَغُفْرَانِ خَطَايَانَا وَزَلَّاتِنَا فَكَانَتْ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ لِأَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ ما كان سَبَبُهَا التِّلَاوَةَ وَسَبَبُ وُجُوبِ هذه السَّجْدَةِ تِلَاوَةُ هذه الْآيَةِ التي فيهاالإخبار عن هذه النِّعَمِ على دَاوُد عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَطْمَاعُنَا في نَيْلِ مِثْلِهِ وَكَذَا سَجْدَةُ النبي صلى الله عليه وسلم في الْجُمُعَةِ الْأُولَى وَتَرْكُ الْخُطْبَةِ لِأَجْلِهَا يَدُلُّ على أنها سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ وَتَرْكُهُ في الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَدُلُّ على أنها لَيْسَتْ بِسَجْدَةِ تِلَاوَةٍ بَلْ كان يُرِيدُ التَّأْخِيرَ وَهِيَ عِنْدَنَا لَا تَجِبُ على الْفَوْرِ فَكَانَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَسْجُدَهَا على الْفَوْرِ وَالثَّالِثُ أَنَّ في الْمُفصل عِنْدَنَا ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا سَجْدَةَ في الْمُفصل وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يَسْجُدْ في الْمُفصل بَعْدَمَا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ أَنَّهُ قال اقرأني رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً ثَلَاثٌ منها في الْمُفصل وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال عَزَائِمُ السُّجُودِ في الْقُرْآنِ أَرْبَعَةٌ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ وحم السَّجْدَةِ وَالنَّجْمُ و‏:‏ ‏{‏اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قال رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ ومعه ‏[‏معه‏]‏ الناس الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ إلَّا شَيْخًا وَضَعَ كَفًّا من براب ‏[‏تراب‏]‏ على جَبْهَتِهِ وقال هذا يَكْفِينِي فَلَقِيتُهُ قبل ‏[‏قتل‏]‏ كَافِرًا وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَرَأَ‏:‏ ‏{‏إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ‏}‏ فَسَجَدَ وَسَجَدَ معه أَصْحَابُهُ وَلِأَنَّهُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ في سُورَةِ النَّجْمِ‏:‏ ‏{‏اقرأ ‏[‏واقرأ‏]‏ بِاسْمِ رَبِّك‏}‏ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما مَحْمُولٌ على أَنَّهُ كان لَا يَسْجُدُهَا عَقِيبَ التِّلَاوَةِ كما كان يَسْجُدُ من قَبْلُ نَحْمِلُهُ على هذا بِدَلِيلِ ما رَوَيْنَا ثُمَّ في سُورَةِ حم السَّجْدَةِ عندناالسجدة عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ‏}‏ وهو مَذْهَبُ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَوَائِلِ بن حُجْرٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ وهو مَذْهَبُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما هَكَذَا وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ هَهُنَا فَكَانَ السُّجُودُ عِنْدَهُ وَلَنَا أَنَّ السُّجُودَ مَرَّةٌ بِالْأَمْرِ وَمَرَّةٌ بِذِكْرِ اسْتِكْبَارِ الْكُفَّارِ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُخَالَفَتُهُمْ وَمَرَّةٌ عِنْدَ ذِكْرِ خُشُوعِ الْمُطِيعِينَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُتَابَعَتُهُمْ وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ‏}‏ فَكَانَ السُّجُودُ عِنْدَهُ أَوْلَى وَلِأَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا أخذ ‏[‏أخذا‏]‏ بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإن السَّجْدَةَ لو وَجَبَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تَعْبُدُونَ‏}‏ فَالتَّأْخِيرُ إلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا يَسْأَمُونَ‏}‏ لَا يَضُرُّ وَيَخْرُجُ عن الْوَاجِبِ وَلَوْ وَجَبَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا يَسْأَمُونَ‏}‏ لَكَانَتْ السَّجْدَةُ الْمُؤَدَّاةُ قَبْلَهُ حَاصِلَةً قبل وُجُوبِهَا وَوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا فَيُوجِبُ نُقْصَانًا في الصَّلَاةِ ولم يُؤَدِّ الثَّانِيَةَ فَيَصِيرُ الْمُصَلِّي تَارِكًا ما هو وَاجِبٌ في الصَّلَاةِ فَيَصِيرُ النَّقْصُ مُتَمَكِّنًا في الصَّلَاةِ من وَجْهَيْنِ وَلَا نَقْصَ فِيمَا قُلْنَا البتة وَهَذَا هو إمارة التَّبَحُّرِ في الْفِقْهِ والله الموفق‏.‏

فصل بيان الْخُرُوجِ من الصَّلَاةِ

وَأَمَّا الذي هو عِنْدَ الْخُرُوجِ من الصَّلَاةِ فَلَفْظُ السَّلَامِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ وَالْكَلَامُ في التَّسْلِيمِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَتِهِ أَنَّهُ فَرْضٌ أَمْ لَا وفي بَيَانِ قَدْرِهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ وفي بَيَانِ سُنَنِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ أَمَّا صِفَتُهُ فَإِصَابَةُ لَفْظَةِ السَّلَامِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ عِنْدَنَا وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ وَمِنْ الْمَشَايِخِ من أَطْلَقَ اسْمَ السُّنَّةِ عليها وَأَنَّهَا لَا تُنَافِي الْوُجُوبَ لِمَا عُرِفَ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ حتى لو تَرَكَهَا عَامِدًا كان مُسِيئًا وَلَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودٌ لِسَهْوٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمَا لو تَرَكَهَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ احْتَجَّا بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ خَصَّ التَّسْلِيمَ بِكَوْنِهِ مُحَلِّلًا فَدَلَّ أَنَّ التَّحْلِيلَ بِالتَّسْلِيمِ على التَّعْيِينِ فَلَا يَتَحَلَّلُ بِدُونِهِ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ لها تَحْلِيلٌ وَتَحْرِيمٌ فَيَكُونُ التَّحْلِيلُ فيها رُكْنًا قِيَاسًا على الطَّوَافِ في الْحَجِّ وَلَنَا ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لِابْنِ مَسْعُودٍ حين عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ إذَا قُلْتَ هذا أو فَعَلْتَ هذا فَقَدْ قَضَيْتَ ما عَلَيْكَ إنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ جَعَلَهُ قَاضِيًا ما عليه عِنْدَ هذا الْفِعْلِ أو الْقَوْلِ وما لِلْعُمُومِ فميا ‏[‏فيما‏]‏ لايعلم فَيَقْضِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا جَمِيعَ ما عليه وَلَوْ كان التَّسْلِيمُ فَرْضًا لم يَكُنْ قَاضِيًا جَمِيعَ ما عليه بِدُونِهِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَبْقَى عليه وَالثَّانِي أَنَّهُ خَيَّرَهُ بين الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ من غَيْرِ شَرْطِ لَفْظِ التَّسْلِيمِ وَلَوْ كان فَرْضًا ما خَيَّرَهُ وَلِأَنَّ رُكْنَ الصَّلَاةِ ما تَتَأَدَّى بِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خُرُوجٌ عن الصَّلَاةِ وَتَرْكٌ لها لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَخِطَابٌ لِغَيْرِهِ فَكَانَ مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ فَكَيْفَ يَكُونُ رُكْنًا لها‏.‏ أماالحديث فَلَيْسَ فيه نَفْيُ التَّحْلِيلِ بِغَيْرِ التَّسْلِيمِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ التَّسْلِيمَ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا وَالِاعْتِبَارُ بِالطَّوَافِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الطَّوَافَ ليس بِمُحَلِّلٍ إنماالمحلل هو الْحَلْقُ إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ بالاحلال على الطَّوَافِ فإذا طَافَ حَلَّ بِالْحَلْقِ لَا بِالطَّوَافِ وَالْحَلْقُ ليس بِرُكْنٍ فَنُزِّلَ السَّلَامُ في باب الصَّلَاةِ مَنْزِلَةَ الْحَلْقِ في باب الْحَجِّ وَيَنْبَنِي على هذا أَنَّ السَّلَامَ ليس من الصَّلَاةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّسْلِيمَةُ الأ ولى من الصَّلَاةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا بَيَّنَّا وَأَمَّا الْكَلَامُ في قَدْرِهِ فَهُوَ أَنَّهُ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا عن يَمِينِهِ وَالْأُخْرَى عن يَسَارِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وهو قَوْلُ مَالِكٍ وَقِيلَ هو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وقال بَعْضُهُمْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عن يَمِينِهِ وقال مَالِكٌ في قَوْلٍ يُسَلِّمُ الْمُقْتَدِي تَسْلِيمَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً ثَالِثَةً يَنْوِي بها رَدَّ السَّلَامِ على الْإِمَامِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ‏.‏

وَرُوِيَ عن سَهْلِ بن سَعْدٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً عن يَمِينِهِ وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ شُرِعَ لِلتَّحْلِيلِ وَأَنَّهُ يَقَعُ بِالْوَاحِدَةِ فَلَا مَعْنًى لِلثَّانِيَةِ‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَلْفَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما وَكَانُوا يُسَلِّمُونَ عن أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ قال كان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ أَوَّلُهُمَا أَرْفَعُهُمَا وَلِأَنَّ إحْدَى التَّسْلِيمَتَيْنِ لِلْخُرُوجِ عن الصَّلَاةِ وَالثَّانِيَةَ لِلتَّسْوِيَةِ بين الْقَوْمِ في التَّحِيَّةِ وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فالأحد ‏[‏فالأخذ‏]‏ بِمَا رَوَيْنَا أَوْلَى لِأَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ كَانَا من كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَكَانَا يَقُومَانِ بِقُرْبِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كما قال لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أولو ‏[‏أولوا‏]‏ الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى فَكَانَا أَعْرَفَ بِحَالِ النبي صلى الله عليه وسلم وَعَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها كانت تَقُومُ في حَيِّزِ صُفُوفِ النِّسَاءِ وهو آخِرُ الصُّفُوفِ وَسَهْلُ بن سَعْدٍ كان من الصِّغَارِ وكان في أُخْرَيَاتِ الصُّفُوفِ وَكَانَا يَسْمَعَانِ التَّسْلِيمَةَ الْأَوْلَى لِرَفْعِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بها صَوْتَهُ وَلَا يَسْمَعَانِ الثَّانِيَةَ لِخَفْضِهِ بها صَوْتَهُ وَقَوْلُهُمْ التَّحْلِيلُ يَحْصُلُ بِالْأُولَى فَكَذَلِكَ وَلَكِنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ لِلتَّحْلِيلِ بَلْ لِلتَّسْوِيَةِ بين الْقَوْمِ في التَّسْلِيمِ عليهم وَالتَّحِيَّةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى التَّسْلِيمَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بها التَّحْلِيلُ وَلَا التَّسْوِيَةُ بين الْقَوْمِ في ‏[‏والتحية‏]‏ التحية وَرَدُّ السَّلَامِ على الْإِمَامِ يَحْصُلُ بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ إلَيْهِ أَشَارَ أبو حَنِيفَةَ حين سَأَلَهُ أبو يُوسُفَ هل يَرُدُّ على الْإِمَامِ السَّلَامَ من خَلْفَهُ فيقول وَعَلَيْكَ قال لَا وَتَسْلِيمُهُمْ رَدٌّ عليه وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَةَ الثَّالِثَةَ لو كانت ثَابِتَةً لَفَعَلَهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَعَلَّمَهَا الْأُمَّةَ فِعْلًا كما فَعَلُوا التَّسْلِيمَتَيْنِ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّسْلِيمِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ يقول السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَلَا يَزِيدُ عليه وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ وَعُتْبَةَ وَغَيْرِهِمْ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كان يقول هَكَذَا وَأَمَّا سُنَنُ التَّسْلِيمِ فَنَذْكُرُهَا في باب سُنَنِ هذه الصَّلَوَاتِ وَأَمَّا حُكْمُهُ فَهُوَ الْخُرُوجُ من الصَّلَاةِ ثُمَّ الْخُرُوجُ يَتَعَلَّقُ بِإِحْدَى التَّسْلِيمَتَيْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ‏.‏

وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى لِلْخُرُوجِ وَالتَّحِيَّةِ وَالتَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ لِلتَّحِيَّةِ خَاصَّةً وقال بَعْضُهُمْ لَا يَخْرُجُ ما لم يُوجَدْ التَّسْلِيمَتَيْنِ جمعيا ‏[‏جميعا‏]‏ وهو خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ تَكْلِيمُ الْقَوْمِ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لهم فَكَانَ مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو وُجِدَ في وَسَطِ الصَّلَاةِ يُخْرِجُهُ عن الصَّلَاةِ‏.‏

فصل حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْخُرُوجِ منها

وأما الذي هو في حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْخُرُوجِ منها فَالتَّكْبِيرُ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ والكلام فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِهِ وفي وُجُوبِهِ وفي وَقْتِهِ وفي مَحَلِّ أَدَائِهِ وَفِيمَنْ يَجِبُ عليه وفي أَنَّهُ هل يقض ‏[‏يقضى‏]‏ بَعْدَ الْفَوَاتِ في الصَّلَاةِ التي دَخَلَتْ في حَدِّ الْقَضَاءِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عن الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في تَفْسِيرِ التَّكْبِيرِ رُوِيَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وهو قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما وكان ابن عُمَرَ يقول اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ اللَّهُ أَكْبَرُ وللهالحمد وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وكان ابن عَبَّاسٍ يقول اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وهو كل شَيْءٍ قَدِيرٍ وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهمالأنه الْمَشْهُورُ وَالْمُتَوَارَثُ من الْأُمَّةِ وَلِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِاشْتِمَالِهِ على التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ فَكَانَ أَوْلَى‏.‏

فصل بَيَان وُجُوبِهِ

وَأَمَّا بَيَانُ وُجُوبِهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ وقد سَمَّاهُ الْكَرْخِيُّ سُنَّةً ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالْوَاجِبِ فقال تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ نَقَلَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَجْمَعُوا على الْعَمَلِ بها وَإِطْلَاقُ اسْمِ السُّنَّةِ على الْوَاجِبِ جَائِزٌ لِأَنَّ السُّنَّةَ عِبَارَةٌ عن الطَّرِيقَةِ الْمَرْضِيَّةِ أو السِّيرَةِ الْحَسَنَةِ وَكُلُّ وَاجِبٍ هذه صِفَتُهُ وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا اللَّهَ في أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ‏}‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَذِّنْ في الناس بِالْحَجِّ‏}‏ إلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏في أَيَّامٍ معدودات ‏[‏معلومات‏]‏‏}‏ قِيلَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَالْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ وَقِيلَ كِلَاهُمَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَقِيلَ الْمَعْلُومَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ لِأَنَّهُ أَمَرَ في الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ بِالذِّكْرِ مُطْلَقًا وَذَكَرَ في الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ الذِّكْرَ على ما رَزَقَهُمْ من بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ الذَّبَائِحُ وَأَيَّامُ الذَّبَائِحِ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال ما من أَيَّامٍ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْعَمَلُ فِيهِنَّ من هذه الْأَيَّامِ فَأَكْثِرُوا فيها من التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ‏.‏

فصل وَقْتُ التَّكْبِيرِ

وَأَمَّا وَقْتُ التَّكْبِيرِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في ابْتِدَاءِ وَقْتِ التَّكْبِيرِ وَانْتِهَائِهِ اتَّفَقَ شُيُوخُ الصَّحَابَةِ نَحْوُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على الْبِدَايَةِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ من يَوْمِ عَرَفَةَ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاخْتَلَفُوا في الْخَتْمِ‏.‏ قال ابن مَسْعُودٍ يُخْتَمُ عِنْدَ الْعَصْرِ من يَوْمِ النَّحْرِ يُكَبِّرُ ثُمَّ يُقْطَعُ وَذَلِكَ ثَمَانِ صَلَوَاتٍ وَبِهِ أَخَذَ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال عَلِيٌّ يَخْتِمُ عِنْدَ الْعَصْرِ من آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَيُكَبِّرُ لِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه وَبِهِ أَخَذَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وفي رواية‏:‏ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه يَخْتِمُ عِنْدَ الظُّهْرِ من آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ‏.‏

وَأَمَّا الشُّبَّانُ من الصَّحَابَةِ منهم ابن عَبَّاسٍ وابن عُمَرَ ‏(‏رضي الله عنهم‏)‏ فَقَدْ اتَّفَقُوا على الْبِدَايَةِ بِالظُّهْرِ من يَوْمِ النَّحْرِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ أَخَذَ بِهِ غير أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا في الْخَتْمِ فقال ابن عَبَّاسٍ يَخْتِمُ عِنْدَ الظُّهْرِ من آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وقال ابن عُمَرَ يَخْتِمُ عِنْدَ الْفَجْرِ من آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ أَمَّا الْكَلَامُ في الْبِدَايَةِ فَوَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فإذا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ‏}‏‏.‏

أَمْرٌ بِالذِّكْرِ عَقِيبَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ وَقَضَاءُ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَقَعُ في وَقْتِ الضَّحْوَةِ من يَوْمِ النَّحْرِ فَاقْتَضَى وُجُوبَ التَّكْبِيرِ في الصَّلَاةِ التي تَلِيهِ وَهِيَ الظُّهْرُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ‏}‏ وَهِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ في جَمِيعِهَا وَاجِبًا إلَّا أَنَّ ما قبل يَوْمِ عَرَفَةَ خُصَّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَلَا إجْمَاعَ في يَوْمِ عَرَفَةَ وَالْأَضْحَى فَوَجَبَ التَّكْبِيرُ فِيهِمَا عَمَلًا بِعُمُومِ النَّصِّ وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ لِتَعْظِيمِ الْوَقْتِ الذي شُرِعَ فيه الْمَنَاسِكُ وَأَوَّلُهُ يَوْمُ عَرَفَةَ إذْ فيه يُقَامُ مُعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ وهو الْوُقُوفُ وَلِهَذَا قال مَكْحُولٌ يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ من صَلَاةِ الظُّهْرِ من يَوْمِ عَرَفَةَ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَةِ لِأَنَّهَا سَاكِتَةٌ عن الذِّكْرِ قبل قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ فَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بها‏.‏

وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْخَتْمِ فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ على أَصْلِهِ من الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْأَحْدَاثِ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لِوُقُوفِهِمْ على ما اسْتَقَرَّ من الشَّرَائِعِ دُونَ ما نُسِخَ خُصُوصًا في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ لِكَوْنِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةً إلَّا في مَوْضِعٍ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا اللَّهَ في أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ‏}‏ وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَكَانَ التَّكْبِيرُ فيها وَاجِبًا وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ شُرِعَ لِتَعْظِيمِ أَمْرِ الْمَنَاسِكِ وَأَمْرُ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَنْتَهِي بِالرَّمْيِ فَيَمْتَدُّ التكبير ‏[‏بالتكبير‏]‏ إلَى آخِرِ وَقْتِ الرَّمْيِ وَلِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ من باب الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم اخْتَلَفُوا في هذا وَلَأَنْ يَأْتِيَ بِمَا ليس عليه أَوْلَى من أَنْ يَتْرُكَ ما عليه بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ حَيْثُ لم نَأْخُذْ هُنَاكَ بِالْأَكْثَرِ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَهُنَاكَ تَرَجَّحَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِمَا نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ وَالْأَخْذُ بِالرَّاجِحِ أَوْلَى وَهَهُنَا لَا رُجْحَانَ بَلْ اسْتَوَتْ مَذَاهِبُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في الثُّبُوتِ وفي الرِّوَايَةِ عن النبي صلى الله عليه وسلم فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ‏.‏

لأبي ‏[‏ولأبي‏]‏ حَنِيفَةَ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ في الْأَصْلِ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَالسُّنَّةُ في الْأَذْكَارِ الْمُخَافَتَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اُدْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً‏}‏ وَلِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ» وَلِذَا هو أَقْرَبُ إلَى التَّضَرُّعِ وَالْأَدَبِ وَأَبْعَدُ عن الرِّيَاءِ فَلَا يُتْرَكُ هذا الْأَصْلُ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ جاء الْمُخَصِّصُ لِلتَّكْبِيرِ من يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ من يَوْمِ النَّحْرِ وهو قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامِ مَعْلُومَاتٍ‏}‏ وَهِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَمَلُ بِالْكتاب وَاجِبٌ إلَّا فِيمَا خُصَّ بِالْإِجْمَاعِ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِيمَا قبل يَوْمِ عَرَفَةَ أَنَّهُ ليس بِمُرَادٍ وَلَا إجْمَاعَ في يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْكتاب عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ في الْخُصُوصِ وَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ الْعَصْرِ من يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا تَخْصِيصَ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ وَتَرَدُّدِ التَّكْبِيرِ بين السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَوَقَعَ الشَّكُّ في دَلِيلِ التَّخْصِيصِ فَلَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِدَلِيلِ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اُدْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً‏}‏ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ في التَّرْكِ لَا في الْإِتْيَانِ لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ أَوْلَى من إتْيَانِ الْبِدْعَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ أَمْرَ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَنْتَهِي بِالرَّمْيِ فَنَقُولُ رُكْنُ الْحَجِّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلَانِ في هَذَيْنِ الوقتين ‏[‏اليومين‏]‏ فَأَمَّا الرَّمْيُ فَمِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ فَيُعْتَبَرُ في التَّكْبِيرِ وَقْتُ الرُّكْنِ لَا وَقْتُ التَّوَابِعِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فيها قال بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ من الْآيَةِ الذِّكْرُ على الْأَضَاحِيِّ وقال بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ منها الذِّكْرُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى ‏(‏في آخر الآية‏)‏‏:‏ ‏{‏فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عليه وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عليه‏}‏ وَالتَّعَجُّلُ وَالتَّأْخِيرُ إنَّمَا يَقَعَانِ في رَمْيِ الْجِمَارِ لَا في التَّكْبِيرِ‏.‏

فصل مَحَلُّ أَدَاء التَّكْبِيرِ

وَأَمَّا مَحَلُّ أَدَائِهِ فَدُبُرُ الصَّلَاةِ وَإِثْرُهَا وَفَوْرُهَا من غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَ ما يَقْطَعُ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ حتى لو قَهْقَهَ أو أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أو تَكَلَّمَ عَامِدًا أو سَاهِيًا أو خَرَجَ من الْمَسْجِدِ أو جَاوَزَ الصُّفُوفَ في الصَّحْرَاءِ لَا يُكَبِّرُ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ من خَصَائِصِ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا عَقِيبَ الصَّلَاةِ فَيُرَاعَى لِإِتْيَانِهِ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ وَهَذِهِ الْعَوَارِضُ تَقْطَعُ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ فَيَقْطَعُ التَّكْبِيرَ وَلَوْ صَرَفَ وَجْهَهُ عن الْقِبْلَةِ ولم يَخْرُجْ من الْمَسْجِدِ ولم يُجَاوِزْ الصُّفُوفَ أو سَبَقَهُ الْحَدَثُ يُكَبِّرُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ بَاقِيَةٌ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يبني وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ ما يَقْطَعُ الْبِنَاءَ يَقْطَعُ التَّكْبِيرَ وما لَا فَلَا وإذا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنْ شَاءَ ذَهَبَ فَتَوَضَّأَ وَرَجَعَ فَكَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَبَّرَ من غَيْرِ تَطْهِيرٍ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَلَا تُشْتَرَطُ له الطَّهَارَةُ قال الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزاهد السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَلَا يَخْرُجُ من الْمَسْجِدِ لِلطَّهَارَةِ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ لَمَّا لم يَفْتَقِرْ إلَى الطَّهَارَةِ كان خُرُوجُهُ مع عَدَمِ الْحَاجَةِ قَاطِعًا لِفَوْرِ الصَّلَاةِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّكْبِيرُ بَعْدَ ذلك فَيُكَبِّرُ لِلْحَالِ جَزْمًا وَلَوْ نَسِيَ الْإِمَامُ التَّكْبِيرَ فَلِلْقَوْمِ أَنْ يُكَبِّرُوا وقد اُبْتُلِيَ بِهِ أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قال يَعْقُوبَ صَلَّيْتُ بِهِمْ الْمَغْرِبَ فَقُمْتُ وَسَهَوْتُ أَنْ كَبَّرَ فَكَبَّرَ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فلم يَسْجُدْ لِسَهْوِهِ ليس لِلْقَوْمِ أَنْ يَسْجُدُوا حتى لو قام وَخَرَجَ من الْمَسْجِدِ أو تَكَلَّمَ سَقَطَ عنه وَعَنْهُمْ وَالْفَرْقُ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جُزْءٌ من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْجُزْءِ الْفَائِتِ من الصَّلَاةِ وَالْجَابِرُ يَكُونُ بِمَحَلِّ النَّقْصِ وَلِهَذَا يؤدى في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ إمَّا لِأَنَّهُ لم يَخْرُجْ أو لِأَنَّهُ عَادَ وَشَيْءٌ من الصَّلَاةِ لَا يُؤَدَّى بَعْدَ انْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ وَلَا تَحْرِيمَةَ بَعْدَ قِيَامِ الْإِمَامِ فَلَا يأتي ‏[‏يتأتى‏]‏ بِهِ الْمُقْتَدِي فَأَمَّا التَّكْبِيرُ فَلَيْسَ من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَيُشْتَرَطُ له التَّحْرِيمَةُ وَيُوجِبُ الْمُتَابَعَةَ لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَلَا يَجِبُ فيه مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ غير أَنَّهُ إنْ أتى بِهِ الْإِمَامُ يَتْبَعُهُ في ذلك لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ مُتَّصِلًا بها فَيُنْدَبُ إلَى اتِّبَاعِ من كان مَتْبُوعًا في الصَّلَاةِ فإذا لم يَأْتِ بِهِ الْإِمَامُ أتى بِهِ الْقَوْمُ لِانْعِدَامِ الْمُتَابَعَةِ بِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ كَالسَّامِعِ مع التَّالِي أَيْ إنْ سَجَدَ التَّالِي يَسْجُدُ معه السَّامِعُ وَإِنْ لم يَسْجُدْ التَّالِي يَأْتِي بِهِ السَّامِعُ كَذَا هَهُنَا وَلِهَذَا لَا يَتَّبِعُ الْمُقْتَدِي رأى إمَامِهِ حتى إنَّ الْإِمَامَ لو رَأَى رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْمُقْتَدِي يَرَى رَأْيَ عَلِيٍّ فصلى صَلَاةً بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ فلم يُكَبِّرْ الْإِمَامُ اتِّبَاعًا لِرَأْيِهِ يُكَبِّرُ الْمُقْتَدِي اتِّبَاعًا لِرَأْيِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ ليس بِتَابِعٍ لِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ التي بها صَارَ تَابِعًا له فكذلك ‏[‏فكذا‏]‏ هذا وَعَلَى هذا إذَا كان مُحْرِمًا وقد سَهَا في صَلَاتِهِ سَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ ثُمَّ لَبَّى لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يُؤْتَى بِهِ في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِهَذَا يُسَلِّمُ بَعْدَهُ وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ في سُجُودِ السَّهْوِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ فَأَمَّا التَّكْبِيرُ وَالتَّلْبِيَةُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَا يُسَلِّمُ بَعْدَهُ وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُقْتَدِي بِهِ اتِّبَاعًا لِرَأْيِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ ليس بِتَابِعٍ له لِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ التي بها صَارَ تَابِعًا له فَكَذَلِكَ هذا وَعَلَى هذا إذَا كان مُحْرِمًا وقد سَهَا بِهِ في حَالِ التَّكْبِيرِ وَالتَّلْبِيَةِ فَيُقَدِّمُ السَّجْدَةَ ثُمَّ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَإِنْ كان يُؤْتَى بِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَهُوَ من خَصَائِصِ الصَّلَاةِ فَلَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا عَقِيبَ الصَّلَاةِ وَالتَّلْبِيَةُ لَيْسَتْ من خَصَائِصِ الصَّلَاةِ بَلْ يُؤْتَى بها عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ كُلَّمَا هَبَطَ وَادِيًا أو عَلَا شَرَفًا أو لَقِيَ رَكْبًا وما كان من خَصَائِصِ الشَّيْءِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ منه فَيُجْعَلُ التَّكْبِيرُ كَأَنَّهُ من الصَّلَاةِ وما لم يَفْرُغْ من الصَّلَاةِ لم يُوجَدْ اخْتِلَافُ الْحَالِ فَكَذَا ما لم يَفْرُغْ من التَّكْبِيرِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لم يَتَبَدَّلْ الْحَالُ فَلَا يَأْتِي بِالتَّلْبِيَةِ‏.‏

وَلَوْ سَهَا وَبَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ قبل السَّجْدَةِ لَا يُوجِبُ ذلك قَطْعَ صَلَاتَهُ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ ليس من كَلَامِ الناس وَلَوْ لَبَّى أَوَّلًا فَقَدْ انْقَطَعَتْ صَلَاتُهُ وَسَقَطَتْ عنه سَجْدَتَا السَّهْوِ وَالتَّكْبِيرِ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ تُشْبِهُ كَلَامَ الناس لِأَنَّهَا في الْوَضْعِ جَوَابٌ لِكَلَامِ الناس وَغَيْرُهَا من كَلَامِ الناس يَقْطَعُ الصَّلَاةَ فَكَذَا هِيَ وَتَسْقُطُ سَجْدَةُ السَّهْوِ لِأَنَّهَا لم تُشْرَعْ إلَّا في التَّحْرِيمَةِ وَلَا تَحْرِيمَةَ وَيَسْقُطُ التَّكْبِيرُ أَيْضًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ إلَّا مُتَّصِلًا بِالصَّلَاةِ وقد زَالَ الِاتِّصَالُ وَعَلَى هذا الْمَسْبُوقُ لَا يُكَبِّرُ مع الْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ وَالْمَسْبُوقُ بَعْدُ في خِلَالِ الصَّلَاةِ فَلَا يَأْتِي بِهِ‏.‏

فصل بَيَان من يَجِبُ عليه التكبير

وَأَمَّا بَيَانُ من يَجِبُ عليه فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ أنه لَا يَجِبُ إلَّا على الرِّجَالِ الْعَاقِلِينَ الْمُقِيمِينَ الْأَحْرَارِ من أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْمُصَلِّينَ الْمَكْتُوبَةَ بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ فَلَا يَجِبُ على النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْمُسَافِرِينَ وَأَهْلِ الْقُرَى وَمَنْ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ وَالْفَرْضَ وحده وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجِبُ على كل من يُؤَدِّي مَكْتُوبَةً في هذه الْأَيَّامِ على أَيِّ وَصْفٍ كان في أَيِّ مَكَان كان وهو قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وقال الشَّافِعِيُّ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجِبُ على كل مُصَلٍّ فَرْضًا كانت الصَّلَاةُ أو نَفْلًا لِأَنَّ النَّوَافِلَ أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ فما شُرِعَ في حَقِّ الْفَرَائِضِ يَكُونُ مَشْرُوعًا في حَقِّهَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُكَبِّرَانِ عَقِيبَ التَّطَوُّعَاتِ ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذلك فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا في مَوْضِعٍ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وما وَرَدَ النَّصُّ إلَّا عَقِيبَ الْمَكْتُوبَاتِ وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِمَا نَذْكُرُ وَالنَّوَافِلُ لَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ وَكَذَا لَا يُكَبَّرُ عَقِيبَ الْوِتْرِ عِنْدَنَا أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ نَفْلٌ وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ لَا يُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ في هذه الْأَيَّامِ وَلِأَنَّهُ وَإِنْ كان وَاجِبًا فَلَيْسَ بمكتوبة ‏[‏بمكتوب‏]‏ وَالْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا في مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ إلَّا في الْمَكْتُوبَاتِ وَكَذَا لَا يُكَبَّرُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعِيدِ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَيُكَبَّرُ عَقِيبَ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ كَالظُّهْرِ وَأَمَّا الْكَلَامُ مع أَصْحَابِنَا فَهُمَا احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ‏}‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا اللَّهَ في أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ‏}‏ من غَيْرِ تَقْيِيدِ مَكَان أو جِنْسٍ أو حَالٍ وَلِأَنَّهُ من تَوَابِعِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ ما يُوجِبُ قَطْعَ الصَّلَاةِ من الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ يُوجِبُ قَطْعَ التَّكْبِيرِ فَكُلُّ من صلى الْمَكْتُوبَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا في مِصْرٍ جَامِعٍ وَقَوْلُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا في مِصْرٍ جَامِعٍ وَالْمُرَادُ من التَّشْرِيقِ هو رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ هَكَذَا قال النَّضْرُ بن شُمَيْلٍ وكان من أَرْباب اللُّغَةِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ وَلِأَنَّ التشريق ‏[‏التصديق‏]‏ في اللُّغَةِ هو الْإِظْهَارُ وَالشُّرُوقَ هو الظُّهُورُ يُقَالُ أشرقت ‏[‏شرقت‏]‏ الشَّمْسُ إذَا طَلَعَتْ وَظَهَرَتْ سُمِّيَ مَوْضِعُ طُلُوعِهَا وَظُهُورِهَا مَشْرِقًا لِهَذَا وَالتَّكْبِيرُ نَفْسُهُ إظْهَارٌ لِكِبْرِيَاءِ اللَّهِ وهو إظْهَارُ ما هو من شِعَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ تَشْرِيقًا وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ على صَلَاةِ الْعِيدِ لِأَنَّ ذلك مُسْتَفَادٌ بِقَوْلِهِ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى في حديث عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَلَا على إلْقَاءِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بِالْمَشْرِقَةِ لِأَنَّ ذلك لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان فَتَعَيَّنَ التَّكْبِيرُ مُرَادًا بِالتَّشْرِيقِ وَلِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وأعلام الدِّينِ وما هذا سَبِيلُهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا في مَوْضِعٍ يَشْتَهِرُ فيه وَيَشِيعُ وَلَيْسَ ذلك إلَّا في الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَلِهَذَا اختص ‏[‏يختص‏]‏ بِهِ الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ‏.‏

وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهِ الْمُنْفَرِدُ وَالنِّسْوَانُ لِأَنَّ مَعْنَى الِاشْتِهَارِ يَخْتَصُّ بِالْجَمَاعَةِ دُونَ الْأَفْرَادِ وَلِهَذَا لَا يُصَلِّي الْمُنْفَرِدُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَأَمْرُ النِّسْوَانِ مَبْنِيٌّ على السَّتْرِ دُونَ الْإِشْهَارِ وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فيها وَأَمَّا الْأُولَى فَنَحْمِلُهَا على خُصُوصِ الْمَكَانِ وَالْجِنْسِ وَالْحَالِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وما ذَكَرُوا من مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ مُسَلَّمٌ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْمِصْرِ وَالْجَمَاعَةِ وَغَيْرِهِمَا من الشَّرَائِطِ فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِهَا فَلَا نُسَلِّمُ التبعية ‏[‏التبيعة‏]‏ وَلَوْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ وَجَبَ عليه التَّكْبِيرُ لِأَنَّهُ صَارَ تبعا ‏[‏تابعا‏]‏ لِإِمَامِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا فَيُكَبِّرُ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ وَكَذَا النِّسَاءُ إذَا اقْتَدَيْنَ بِرَجُلٍ وَجَبَ عَلَيْهِنَّ على سَبِيلِ الْمُتَابَعَةِ فَإِنْ صَلَّيْنَ بِجَمَاعَةٍ وَحْدَهُنَّ فَلَا تَكْبِيرَ عَلَيْهِنَّ لِمَا قُلْنَا وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ إذَا صَلَّوْا في الْمِصْرِ بِجَمَاعَةٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ عليهم التَّكْبِيرَ وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا تَكْبِيرَ عليهم لِأَنَّ السَّفَرَ مُغَيِّرٌ لِلْفَرْضِ مُسْقِطٌ لِلتَّكْبِيرِ ثُمَّ في تَغَيُّرِ الْفَرْضِ لَا فَرْقَ بين أَنْ يُصَلُّوا في الْمِصْرِ أو خَارِجَ الْمِصْرِ فَكَذَا في سُقُوطِ التَّكْبِيرِ وَلِأَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ شَرْطٌ وَالْمُسَافِرُ ليس من أَهْلِ الْمِصْرِ فَالْتَحَقَ الْمِصْرُ في حَقِّهِ بِالْعَدَمِ‏.‏

فصل بَيَان حُكْمِ التَّكْبِيرِ

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ التَّكْبِيرِ فِيمَا دخل من الصَّلَوَاتِ في حَدِّ الْقَضَاءِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ في غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أو فَاتَتْهُ في هذه الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا في غَيْرِ هذه الْأَيَّامِ أو فَاتَتْهُ في هذه الأيام فقضاها في العام القابل من هذه الأيام أو فاتته في هذه الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا في هذه الْأَيَّامِ من هذه السَّنَةِ فَإِنْ فَاتَتْهُ في غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يُكَبِّرُ عَقِيبَهَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ على حَسْبِ الْأَدَاءِ وقد فَاتَتْهُ بِلَا تَكْبِيرٍ فَيَقْضِيهَا كَذَلِكَ وَإِنْ فَاتَتْهُ في هذه الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا في غَيْرِ هذه الْأَيَّامِ لَا يُكَبِّرُ عَقِيبِهَا أَيْضًا وَإِنْ كان الْقَضَاءُ على حَسَبِ الْأَدَاءِ وقد فَاتَتْهُ مع التَّكْبِيرِ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ في الْأَصْلِ إلَّا حَيْثُ وَرَدَ الشَّرْعُ وَالشَّرْعُ ما وَرَدَ بِهِ في وَقْتِ الْقَضَاءِ فَبَقِيَ بِدْعَةً فَإِنْ فَاتَتْهُ في هذه الْأَيَّامِ وَقَضَاهَا في الْعَامِ الْقَابِلِ في هذه الْأَيَّامِ لَا يُكَبِّرُ أَيْضًا وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا في مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِجَعْلِ هذا الْوَقْتِ وَقْتًا لِرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ صَلَاةٍ هِيَ من صَلَوَاتِ هذه الْأَيَّامِ ولم يَرِدْ الشَّرْعُ بِجَعْلِهِ وَقْتًا لِغَيْرِ ذلك فَبَقِيَ بِدْعَةً كَأُضْحِيَّةٍ فَاتَتْ عن وَقْتِهَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهَا في الْعَامِ الْقَابِلِ وَإِنْ عَادَ الْوَقْتُ وَكَذَا رَمْيُ الْجِمَارِ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هذا وَإِنْ فَاتَتْهُ في هذه الْأَيَّامِ وَقَضَاهَا في هذه الْأَيَّامِ من هذه السَّنَةِ يُكَبِّرُ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ سُنَّةُ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ وقد قَدَرَ على الْقَضَاءِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتًا لِتَكْبِيرَاتِ الصَّلَوَاتِ الْمَشْرُوعَاتِ فيها‏.‏